تعدّد المهام: كفاءة أم تشتّت؟ رحلة نحو التركيز الحقيقي
مرحباً يا أصدقاء!
هل سبق لكم أن شعرتم بأن يومكم يطير من بين أيديكم، وأنكم تسعون جاهدين لإنجاز كل شيء في نفس الوقت؟ تماماً كلاعب بهلوان يحاول إبقاء عشر كرات في الهواء، لحظة واحدة من الشرود قد تؤدي إلى سقوط الكرات جميعها، وتجدون أنفسكم غارقين في فوضى المهام.
دعوني أشارككم قصة حدثت معي في أحد الأيام.
استيقظتُ ذلك الصباح وأنا أظن أنني مستعدة تماماً لمواجهة تحديات اليوم. كوب قهوتي
الدافئ بجانبي، حاسوبي المحمول أمامي، ولائحة مهام مرتبة بعناية فائقة. ما إن جلستُ
وبدأتُ العمل، حتى انطلقت عاصفة من الأحداث المتلاحقة: رسالة عاجلة من عميلة تطلب تعديلاً
فورياً على تصميم، مكالمة هاتفية من المورد لتأكيد موعد التسليم، رسائل متتالية تنهال
من فريق التسويق، وفوق كل ذلك، تنبيه بموعد نهائي وشيك لتسليم مشروع تصميم غلاف.
ابتسمتُ بثقة، فأنا أستطيع القيام بكل
شيء… أو هكذا كنتُ أعتقد في ذلك الحين. بدأت أصابعي تتحرك بسرعة على لوحة المفاتيح،
أذني تتابع تفاصيل المكالمة، عيني تلمح الإشعارات المتتالية، وقلبي يزداد خفقاناً مع
كل دقيقة تمر. انتهى نصف الساعة، ولكن النتيجة لم تكن كما توقعتُ أبداً: تصميم لا يزال
بحاجة إلى تعديل، رسائل لم يُرد عليها بالكامل، ومكالمة لم تُحسم تفاصيلها بعد.
هنا، بدأتُ أتساءل بجدية: أليس
"تعدّد المهام" مهارة العصر التي يتغنى بها الجميع؟ أليس القيام بأكثر من
شيء في الوقت نفسه علامة واضحة على الكفاءة والتميز؟
الحقيقة أن مفهوم "تعدّد المهام"
(Multitasking)،
كما يسميه خبراء الإنتاجية، يعني ببساطة أن تحاول تنفيذ أكثر من نشاط أو مهمة في وقت
واحد، أو في أوقات متقاربة جداً. قد يكون هذا مقبولاً ومفيداً في الأمور الروتينية
والبسيطة: كتحضير وجبة الغداء وأنت تستمع إلى بودكاست مفيد، أو ترتيب الغرفة بينما
تجري مكالمة ودية مع صديق. في مثل هذه المواقف، قد تشعر وكأنك تستثمر وقتك بذكاء وفعالية.
لكن… في عالم الدماغ البشري المعقد، هناك
قصة مختلفة تماماً. الأبحاث العلمية الحديثة تؤكد أن عقلنا البشري لا يجيد على الإطلاق
القيام بمهمتين ذهنيتين معقدتين في نفس اللحظة. كل انتقال بين مهمة وأخرى يستهلك ما
يُعرف بـ "تكلفة التحويل" (Switching Cost)، وهي عبارة عن الوقت والطاقة الذهنية اللذين
يحتاجهما دماغك لإعادة ضبط تركيزه والانتقال بسلاسة من مهمة إلى أخرى. هذه التكلفة
الخفية هي العدو الصامت للإنتاجية، فهي السبب الرئيسي وراء الأخطاء المتكررة، وانخفاض
جودة العمل المنجز، والشعور بالإرهاق الشديد بعد يوم عمل مزدحم، حتى لو لم تكن قد أنجزت
الكثير فعلياً.
تأملوا معي بعض الأمثلة الواقعية التي
قد نمر بها جميعاً:
§
زميل في العمل يكتب تقريراً مهماً وحساساً بينما يرد
على مكالمة هاتفية، فينسى إدراج بيانات أساسية أو يرتكب أخطاء غير مقصودة.
§
صديقة تذاكر مادة دراسية صعبة ومعقدة وهي تتنقل باستمرار
بين رسائل الأصدقاء والموسيقى الصاخبة، فتشعر أن المعلومات تتبخر من رأسها ولا تستطيع
استيعابها بشكل كامل.
§
أو حتى أنا، حين أشاهد فيلماً ممتعاً بينما أتصفح
وسائل التواصل الاجتماعي على هاتفي، فلا أتذكر أحداث الفيلم بشكل جيد ولا أستمتع بالتصفح
على أكمل وجه.
مع مرور الوقت وتكرار هذه التجارب، أدركتُ
أن الحل الحقيقي ليس في أن أعمل كجهاز كمبيوتر متعدد المهام، بل أن أعمل كإنسان واعٍ
يعرف كيف يوزّع طاقته الذهنية والجسدية بذكاء. وهنا، دخلتُ عالماً جديداً تماماً: عالم
التركيز الأحادي (Single-tasking). هذا المفهوم البسيط يعني أن تمنح كل مهمة كامل
انتباهك وتركيزك المطلق حتى تنتهي منها تماماً، ثم تنتقل بعدها إلى المهمة التالية. والنتيجة
كانت مذهلة: وضوح أكبر في التفكير، سرعة أفضل في الإنجاز، وتوتر أقل بكثير. شعرتُ وكأن
عبئاً ثقيلاً قد رُفع عن كتفي، وأصبح بإمكاني أخيراً التنفس بعمق والاستمتاع بثمار
جهدي.
لكي أصل إلى هذا المستوى من التركيز،
بدأتُ أجرّب خطوات بسيطة لكنها فعالة للغاية:
§
تقنية بومودورو (Pomodoro
Technique): أصبحتُ أخصص 25 دقيقة للتركيز التام
على مهمة واحدة، ثم أتبعها بخمس دقائق من الراحة. هذه الدورات القصيرة ساعدتني على
الحفاظ على نشاطي الذهني وتجنب الإرهاق.
§
إيقاف الإشعارات: عند العمل على مهمة تتطلب تركيزاً عالياً، أقوم بإيقاف
جميع الإشعارات على هاتفي وحاسوبي. هذا الإجراء البسيط أحدث فرقاً هائلاً في قدرتي
على الانغماس في العمل دون مقاطعات.
§
ترتيب الأولويات: قبل البدء بيومي، أصبحتُ أرتّب مهامي وأبدأ دائماً
بالأهم. هذا يضمن أنني أمنح طاقتي القصوى للمهام التي تحدث أكبر تأثير.
§
الاستعانة بالأدوات الذكية: أصبحتُ أستخدم تطبيقات مثل Forest لمساعدتي على البقاء مركزة، حيث ينمو شجرة افتراضية كلما حافظتُ على تركيزي.
كما أستعين بـ Notion
أو Trello
لتنظيم مهامي وتتبع تقدمي، مما يمنحني شعوراً بالتحكم والوضوح.
اليوم، لم أعد أفتخر بأنني "أفعل
كل شيء في وقت واحد"، بل أفتخر بأنني أختار المهمة الأهم وأمنحها أفضل ما عندي
من تركيز وطاقة. لأنني تعلمتُ أن الإنتاجية الحقيقية ليست في ملء الوقت بالمهام، بل
في ملء الإنجاز بالمعنى والجودة والإتقان.
بعد أن تخلّصتُ من فوضى تعدد المهام،
شعرتُ براحة عميقة لم أعهدها من قبل، كأن عبئاً ثقيلاً قد رُفع عن كتفي، وأصبح بإمكاني
أخيراً التنفس بعمق والاستمتاع بثمار جهدي الحقيقي. لم أعد أحاول إبقاء عشر كرات في
الهواء مثل لاعب بهلوان مرهق… بل أختار كرة واحدة، وألعبها بإتقان وشغف حتى النهاية.
وتذكروا دائماً: تركيزكم هو أجمل هدية تمنحونها لإنجازكم.
ودمتم بخير يا أصدقاء.
تعليقات
إرسال تعليق