شجرة البلوط تهمس: لا تنتظر يناير لتبدأ الآن
مرحباً يا أصدقائي،
ها نحن في نوفمبر، الشهر الذي يأتي حاملاً برودة المساء ودفء الذكريات.
هو ذاك الوقت من السنة الذي يجعلك ترغب في كوب شاي ساخن وغطاءٍ دافئ، وكأنك تريد أن
تختبئ قليلاً من العالم. الجو في الخارج بارد، والرياح تهمس بين الأشجار، لكن في الداخل
هناك دفء بسيط نُشعله بالحديث والابتسامات. إنه شهر التأمل والمراجعة، شهر ننظر فيه
خلفنا لنرى كيف مرّ العام، وما الذي أنجزناه، وما الذي ما زال ينتظرنا في زاوية الوقت.
أتعلمون؟ في هذه الأيام، ومع اقتراب نهاية السنة، نشعر جميعاً بثقلٍ ما.
ضغط العمل يزداد، المهام تتكاثر، والأفكار تتشابك في رؤوسنا حتى نفقد البساطة في التفكير.
كأن كل ما لم نفعله طوال الشهور الماضية قرر أن يطالبنا الآن. وبينما نحاول أن نُنهي
كل شيء، تتسلل إلينا تلك الفكرة التي نعرفها جميعاً: “عندما تبدأ السنة الجديدة، سأبدأ
أنا أيضاً.”
نقولها لأنفسنا مراراً — سأبدأ الرياضة في يناير، سأقرأ ذاك الكتاب، سأخطط
لمشروعي، سأهتم بنفسي أكثر.
لكن الحقيقة أن هذه الجملة هي فخّ جميل — مريح في ظاهره، مؤجل في جوهره.
نسميه التسويف المستقبلي، وهو الذي يجعلنا ننتظر بداية رمزية لنبدأ، بينما اللحظة
المناسبة للبداية هي الآن.
لدينا شهر ونصف على نهاية السنة، وقت كافٍ جداً لنُكمل ما تأخر، أو لنزرع
بداية جديدة صغيرة، لا تحتاج إلى سنة جديدة لتحدث، بل فقط إلى قرار صادق في هذه اللحظة.
أتذكر أنني قبل فترة وجيزة، شعرت بهذا الضغط تماماً. ازدحمت المهام حتى
لم أعد أرى نفسي وسطها، فقررت أن أهرب قليلاً — أو بالأحرى، أن أتنفس من جديد. حملت
حقيبتي، وذهبت في رحلة إلى مكان هادئ جداً، بعيد عن المدينة، حيث الحياة بسيطة كأنها
تسير على إيقاع الطبيعة لا على ضوضاء الوقت. وهناك، في صباحٍ باردٍ وعذب، رأيت أمامي
شجرة بلوط ضخمة، شامخة ومتجذرة كأنها تروي حكايات قديمة.
وقفت أتأملها، وابتسمت دون أن أشعر… لأنني تذكرت عادتي القديمة: كنت كلما
ذهبت في رحلة، أجمع ثمار البلوط، لا لأكلها — فأنا لا أحب طعمها أبداً — لكن لأرسم
عليها وجوهاً صغيرة، كأنها إيموجيّات حية. هذه الثمار الصغيرة كانت تتحول بين يدي إلى
شخصيات لها ملامح ومشاعر، واحدة تبتسم، أخرى حزينة، ثالثة متفاجئة. كانت جدتي رحمها
الله تعشق شجر البلوط، وكنت أجمعها لها في كل رحلة.
وحين كنت أعود بها إليها، كنت أرسم على كل ثمرة وجهاً مختلفاً، وأضعها
أمامها على الطاولة، فتضحك وتقول لي:
“ما هذا؟ ماذا فعلتِ
بالبلوط المسكين؟!”
وكنت أضحك معها وأقول: “هذه وجوهنا يا جدتي، يوماً نبتسم، ويوماً نحزن،
ويوماً نندهش.”
تلك اللحظات الصغيرة كانت مليئة بالحب، واليوم، وأنا أقف أمام شجرة البلوط
في رحلتي الأخيرة، شعرت وكأنها تذكرني بها، وكأن الريح التي مرّت بين أغصانها قالت
لي بخفة: رحمكِ الله يا جدتي.
تلك الذكرى البسيطة حرّكت في داخلي شيئاً عميقاً. تذكّرت حينها أنني كنت أملك عادة أخرى تشبه جمع البلوط: كنت أستخدم مفكرة تتبع المزاج. كنت أكتب فيها حالاتي اليومية، مزاجي في الصباح، شعوري في المساء، الأيام التي تشرق فيها روحي، وتلك التي تثقل فيها خطواتي. ومع مرور الوقت، نسيت تلك العادة، ربما من زحمة الحياة أو من تسارع الأيام. لكن وقوفي هناك، أمام الشجرة، جعلني أستعيدها — تماماً كما استعدت ذكرى جدتي — لأنني أدركت أن تتبع المزاج يشبه الرسم على البلوط: كلاهما يجعلنا نرى أنفسنا بوضوح أكثر، بتقلباتنا، بضعفنا وقوتنا، بفرحنا وحزننا، دون خوف أو خجل.
وبينما كنت أتجول في تلك المنطقة، لاحظت شيئاً غريباً في الطقس: كأن الفصول
الأربعة اجتمعت في يوم واحد! بدأ الصباح بدفء الربيع الخفيف، ثم تحول فجأة إلى حرارة
الصيف الشديدة، ومع الظهر جاء الخريف بأوراقه المتساقطة والرياح الباردة، وانتهى المساء
ببرودة الشتاء الخفيفة التي جعلتني أرتجف قليلاً. شعرت وكأن الأشياء حولي تخبرني ببساطة:
الحياة مليئة بالتقلبات، تماماً مثل مزاجنا اليومي، وهذا ما يجعلها مثيرة ويذكرنا بأننا
لا نحتاج إلى انتظار "السنة الجديدة" للتكيف أو البدء من جديد.
وأنا أعود من تلك الرحلة، كنت أشعر بخفة غريبة. أدركت أن الراحة في منتصف
الضغط ليست رفاهية، بل ضرورة حقيقية. الراحة ليست هروباً من العمل، بل استعادة لطاقتنا
كي نعمل من جديد. هي الوقفة التي نحتاجها لنرى الطريق بوضوح، لنفهم أنفسنا قبل أن نحاسبها.
لذلك يا أصدقائي، لا تنتظروا بداية السنة لتبدؤوا من جديد. أمامنا وقت كافٍ لنفعل الكثير. يمكننا أن نُنهي ما بدأناه، أن نبدأ عادة بسيطة، أن نستعيد أنفسنا، أو أن نرتاح قليلاً دون شعور بالذنب. لا تجعلوا التسويف يسرق منكم ما تبقى من العام، فالبداية الحقيقية لا تنتظر يناير، إنها تبدأ من قرارٍ صادق في هذا اليوم.
فلنمنح أنفسنا دفئاً وسط هذا البرد، ولنملأ أيامنا القادمة بخطوات صغيرة
لكنها حقيقية. وتذكّروا، كما يتبدل الطقس من شمس إلى مطر، كذلك نحن نتبدل، وهذا لا
بأس به. المهم أن نستمر، بخطى هادئة وقلبٍ مطمئن.
دمتم بخير يا أصدقائي،
ولعل الله يجعل أيامكم القادمة أدفأ من هذا الشتاء، وأقرب إلى أرواح من
تحبون، ورحم الله من كانوا يملأون أيامنا دفئاً وما زالوا يعيشون في قلوبنا.
![]() |


اللهم ٱمين يارب العالمين...ربي يرحمها الجدة الكريمة ويرحم موتانا وموتى المسلمين...دمتي بخير وعافية حبيبتي وبروكتي اينما كنتي وجزاك الله خير وبركة وعافية وستر وسعادة الدارين 🌸💚
ردحذفاللهم آمين، ولكِ من هذه الدعوات الجميلة نصيب يا رب.💌
ردحذف